جنى الدهيبي | المدن
للمرّة الثالثة على مدار عامٍ كامل، تتقدّم قضيّة الممثل المسرحي زياد عيتاني إلى واجهة الرأي العام اللبناني. في المرّة الأولى، كان كرجلٍ عاجزٍ عُلّقَ على خشبةٍ بلا حولٍ ولا قوّة، ليرجمه الناس "الوطنيون" بالحجر جلدًا أخلاقيًا ومعنويًا بتهمة العمالة مع اسرائيل. في المرّة الثانيّة، استفاق ضمير "الوطنيين" أنفسهم، حين عرفوا أنّ زياد بريئًا من هكذا تهمة، وأنّه وقع ضحية "فبركة ملف التعامل مع إسرائيل". فبدأوا يدافعون عنه ويهتفون باسمه. والآن، في المرّة الثالثة، صبّ أغلب "الوطنيين" من الرأي العام اللبناني جام غضبهم على الحكم القضائي الصادر من مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، القاضي بيتر جرمانوس، الذي ترافع طالبًا براءة المقدم سوزان الحاج، والحكم شهرين مع احتمال استبداله بغرامة 200 ألف ليرة، بجرم كتم المعلومات، والحكم سنة على المقرصن الإلكتروني إيلي غبش.
الاستباحة والنقمة الشعبية
قد تكون مراقبة التفاعل الجماهيري والشعبي مع قضية عيتاني، كفيلًا لإعطاء صورةٍ مصغّرةٍ عن لبنان: استهزاء عام بكلفة تلفيق تهمة العمالة التي تتفوق عليها كلفة ضبط سرعة السيارة. نقمة شعبية على استباحة السياسة للقضاء ولأجهزة الأمن. هيبة قضائيّة مفقودة، أجهزة أمنيّة ينخرها مُفسدون، استقواء الظالم واستضعاف المظلوم، تعزيز منطق "غلبة طائفةٍ على أخرى"، وخطابات فتنوية مُلغّمة بين القيادات السياسية وقواعدها الشعبية، حربٌ باردة في معركة "التشبيح" على المناصب والمراكز، وفوضى عارمة بكلّ ما للكلمة من معنى.
لكنّ هذا التفاعل الذي سيخفت وهجه في الأيام المقبلة، كمسارٍ طبيعي لحال التفاعل الجماهري والشعبي مع مختلف القضايا في لبنان، لن يكون عابرًا في عمقه. فقضيّة عيتاني، تبدو كما لو أنّها منعطفٌ أساسيٌ لترسيخ مفاهيم جديدة في دولة لبنان العميقة، التي تشكو من ترهلٍ كبيرٍ لـ"ديمقراطيّتها" المتمايزة عن سائر دول المشرق العربي، ورجوعها إلى السائد القديم في هذا المشرق، باستخدام أدواته الديكتاتورية و"البعثيّة" والاستباحية للقانون والعدالة والأمن والقضاء. وقضيّة عيتاني أيضًا، بدا إخراجها في المحكمة العسكرية، تأسيسًا جديدًا لمرحلة من اللعب على التوازنات في السياسة وبين الطوائف، بضرب طرفٍ لطرفٍ (حليف!) آخر، كأنّها لعبة "تسجيل نقاط" ومبارزة بالتفوق والذكاء و"الشطارة" في السطو على المكتسبات واحدةً تلو أخرى.
الطائفية معيار "التضامن"
لم يخلُ التفاعل العام مع الحكم الصادر في قضيّة عيتاني، من طعمٍ طائفي بالغ الوضوح، وإن كان التّعبير عنه غير مباشر. شريحةٌ من المتضامنين والمدافعين عن زياد، لم يفوتوا فرصة الإيحاء أو التصريح عن "مظلومية سنيّة" فاقعة جرى ترسيخها في هذه القضيّة، عززت مفاعيل الغبن والاستباحة لدى أبناء هذه الطائفة التي تشعر بنفسها في النظام العام اللبناني، متروكةً من دون "ظهرٍ" وقيادة تحميها. وشريحة أخرى، على قلّتها ربما، من المبررين والمدافعين عن سوزان الحاج، ومن خلفية طائفيّةٍ أيضًا، وجدوا في الحكم الصادر في القضيّة، مبررات قضائيّة وقانونية لا يجب السماح بالتشكيك بها لأسبابٍ "طائفيّة" وسياسية.
وزياد عيتاني الذي خرج من سجنه في حينها متوجهًا مباشرةً إلى بيت الوسط للقاء رئيس الحكومة سعد الحريري، كحضنٍ بديهي لاحتوائه ومناصرة قضيّته، بدا تيّاره مرّةً جديدة، في موقفٍ لا يُحسد عليه أمام شارعه "الغاضب" الذي شعر باستهدافه في الحكم الصادر بحقّ سوزان الحاج ورفيقها المقرصن. واحتواء هذا الشارع للجم غضبه، بدا أيضًا ناقصًا ومبتورًا، بموقفٍ صادرٍ عمّا أسموه "أوساط رئيس الحكومة سعد الحريري"، بأنّ الأفضل كان "لو أنّ القضاة في المحكمة العسكرية استمروا في اعتكافهم، ولم يصدروا هذا الحكم". والتيّار نفسه، الذي لديه نائب في كتلته اسمه هادي حبيش، شقيق زوج سوزان الحاج، وكان مدافعًا شرسًا عنها، تولى أمينه عام أحمد الحريري مهمة إطلاق الموقف السياسي، من الحكم الصادر في قضية عيتاني، بوصفه "الحكم المسيّس بإدارة قضائية انتقامية وكيدية، وحكم أعرج بتوقيع قاضٍ، يصفي حساباته الشخصيّة من حساب العدالة". والسؤال هنا، من هذه الإدارة القضائية الانتقامية والكيدية؟ ومن هي الجهة السياسية "الحليفة" التي تقف خلفها؟
واقع الحال، أنّ "المرجعية السياسية" للقاضي بيتر جرمانوس، حسب معلومات "المدن"، عمّا تتداوله أوساط تيّار المستقبل، ترمي على عاتقها مسؤولية انقاذ الحاج، وأنّ جرمانوس ما كان ليحضر لأول مرّة على قوس المحكمة العسكرية من أجل إصدار هكذا حكم، لولا إشارة مرجعيته السياسية وتأمين غطائها.
شحادة: العدالة وجرمانوس
تعطي مديرة مركز الدفاع عن الحقوق المدنية في لبنان، المحامية ديالا شحادة، في حديثٍ لـ"المدن"، رأيها القانوني بالحكم الصادر بحقّ الحاج وغبش في قضيّة زياد عيتاني، منطلقةً من مبدأ أنّ "القانون موجود لخدمة العدالة وليس العكس"، وبأنّ عملية استخدام القانون للإفلات من العقاب، يأتي معاكسًا لحكم العدالة. تعود شحادة إلى مجريات المحاكمة التي استمرت عامًا كاملًا، وداتا الاتصالات المعروضة بين الغبش والحج، فضلًا عن شهادات الغبش ووزوجته وزياد عيتاني، والتي قدّمت جميعها ما يكفي من قرائن وأدلة، عن "سوء نية سوزان الحاج واستغلالها لنفوذها الذي حصلت عليه بموجب وظيفتها العامة، وعدم ترددها في انتهاك القوانين من أجل منفعة شخصية".
الملفت وفق شحادة، أنّ النيابة العامة العسكرية الممثلة بمفوض الحكومة القاضي بيتر جرمانوس، التي تمثل الادعاء وأصحاب الحقوق الشخصية (إذا ما وجدوا)، وصاحب الحق الشخصي هنا هو زياد عتاني، حضر فيها جرمانوس لأول مرّة.
حضر القاضي جرمانوس بشخصه وجلس على يمين القوس في المقعد المخصص للنيابة العامة العسكرية. وهو "الذي لم نره يومًا حضر في قضايا حساسة منذ توليه منصبه، مثل محاكمة الشيخ أحمد الأسير، والموقوف السوري علي اللقيس المدان بإعدام العسكري محمد حمية، ولا بدعاوى تمسّ بأمن الدولة مثل محاكمات المدانين في معارك عرسال، ولا بقضايا تمسّ مصالح المواطنين، بما فيها مقتل جنود عسكريين ومدنيين، والأموال المنهوبة من الدولة". بدا، حسب تعبير شحادة، "كأن هذه القضية تزن لدى القاضي جرمانوس أكثر من أي قضيّة شهدتها المحكمة العسكرية في عهده". وكان بنفسه أيضًا، "من رفع وصاغ ووقع طلب الادعاء بحقّ الحاج والغبش، وهو من امتنع عن استئناف القرار الاتهامي الصادر عن قاضي التحقيق الأول رياض أبو غيدا، رغم أنّ الملف كان مدعمًا بكلّ القرائن وداتا الاتصالات وشهادات الشهود". تسأل شحادة: "ما هي المعطيات الجديدة التي ظهرت عند جرمانوس بين مرحلة صدور القرار الاتهامي الذي لم يعترض عليه، وبين إصداره طلب البراءة بحقّ الحاج من دون معطيات قانونية جديدة؟".
سابقة أمنية وقضائية
تشير شحادة أنّ النيابة العامة العسكرية تكون عادةً أمام أربعة خيارات قانونية: إمّا أن تطلب حرفيًا "تطبيق مواد الإدعاء"، أو تطلب "التشدد بها أو تخفيفها"، أو تقول "نترك الأمر للرئاسة". بمعنى أننا نحن لسنا متمسكين بادعائنا، أو تطلب البراءة. فـ"نادرًا ما يحدث أن من يطلب البراءة كمدعي عام لا يعترض ولا يستأنف القرار الاتهامي".
المفارقة المضحكة المبكية، أنّ مذكرات المرافعة تعتبر أن سوزان الحاج تم محاكمتها إعلاميًا. أمّا حقيقة الأمر، "أنّ زياد عيتاني هو من تمّت محاكمته إعلاميًا وسجن مدّة أطول مما سجنت سوزان الحاج". الملفت أيضًا، أنّ رئيس الهيئة الحاكمة العميد حسين عبد الله، وفق شحادة، قال أثناء المحاكمة أنه سيستند على "الأدلة الحسية" وعلى داتا الاتصالات، علمًا أنّ "معظم المحاكمات في المحكمة العسكرية تستند على الاعترافات وشهادات الشهود". لكن، "حتى داتا الاتصالات، في واحد منها يقول غبش للحاج في تسجيل صوتي: هيدا زياد عيتاني اللي بدنا راسو، تردّ عليه: هو بذاتو"!
تتمنى شحادة أن يحظى جميع المواطنين "الأبرياء" في لبنان بالمعايير التي مُنحت وطبقت على سوزان الحاج لجهة "الإثبات" خصوصًا، وتقول: "حكم سوزان الحاج وصمة على جبين العدالة في لبنان".
السؤال الجوهري في قضية زياد عيتاني، كان يتمحور على إشكالية إن كانت ستحقق سابقةً في محاسبة شخصية تتبوأ منصبًا في قوى الأمن. لكن، وبما أنّ هذه السابقة لم تتحقق، يبدو أنّ في العدول عنها بعدم إحقاق العدالة، رسالةً إلى فئة من المفسدين في الأمن والقضاء وأصحاب النفوذ الذين تنفسوا الصعداء، مفادها: لا تخافوا، لا أحد يمكن أن يطالكم.