كتبت أنديرا مطر في القبس
في أسوأ مراحلها، وأشدها قتامة، لم تشهد الحياة السياسة اللبنانية حالة من الخواء والضحالة كالتي نعيشها منذ أشهر. فالمشهد السياسي برمته بات إلى حد بعيد مختزلا بشخص وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يطلق عليه اخصامه الكثر في الكواليس السياسية لقب «رئيس الظل». فهو يصرح، ويبادر، ويطلق المواقف، ويعقد المؤتمرات، ويجول في الخارج… فيما تكتفي الاطراف الاخرى بردات الفعل. «في السيرك اللبناني يدير باسيل عروض الألعاب، لأنه الأنشط والأكثر حماسة»، كما يقول صحافي مخضرم، واصفا حالة القيادات الاخرى على النحو التالي: رئيس الحكومة سعد الحريري «لا حول ولا قوة» يتخبط بين الغطرسة الباسيلية المتمادية وتمسكه بالتسوية السياسية مع ميشال عون. رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يتلهى من حين لآخر بمشاهدة لاعبين اغرار لا يفقهون في اصول اللعب، لكن حماستهم الزائدة مشوقة. اما رئيس حزب القوات سمير جعجع، فلم يحسم خياره بعد، بين تلاوة فعل الندامة على تفاهمه مع عون والذي لم يؤد غايته، وبين انتظار وقوع اللاعب الاوحد من شدة الاعياء. ويماثل الصحافي نفسه حالة هذه القيادات الحالية بزعامات بيروتية سنية عريقة في مرحلة سطوع نجم الرئيس الراحل رفيق الحريري، ويستذكر قولا للمفكر منح الصلح بأن «الحريري عتّقنا». اذ ان الرئيس الشهيد بكاريزميته واستحواذه على المشهد الداخلي، اضافة الى شبكة علاقاته الدولية، طغى على كل الزعامات البيروتية التاريخية التي راح دورها يخبو تدريجيا حتى انطفأ تماما.
انه زمن «الباسيلية»، يقول دبلوماسي لبناني ساخرا، ويضيف «بعد سنوات على دخولهم الى السلطة، وتحديدا منذ دخول جبران باسيل الى الحكومة في 2014، اكتشفنا ان العونية هي أول سلالم النهج العوني، فيما الباسيلية هي قمته وذروته». يجتاح باسيل المشهد السياسي على مدار اليوم، وقلما تمر مواقفه وتصريحاته من دون ان تثير زوبعة من السجالات، وهذا ما يطمئنه ويمده بزخم على المثابرة. من الموازنة الى موضوع الكهرباء، الى مؤتمر الطاقة الاغترابية، مترافقة على الدوام مع نغمة استعادة حقوق المسيحيين المسلوبة من زمن الطائف، من دون ان يغيب لحظة عن ذهنه موضوع النازحين السوريين الذي يحمله معه اينما حل، مطالبا بعودتهم الى ديارهم خشية بقائهم في لبنان كما حصل مع الفلسطينيين. لا يمل ولا يكل، لا ينعس ولا ينام: وان غفا قليلا هجس في منامه بشبح التوطين وتوازن الديموغرافيا، فيصحو مطالبا بترحيل هؤلاء بأسرع وقت. وهو ما دفع وليد جنبلاط إلى السؤال: «من الحاكم في هذا البلد، وما هو موقف رئيس الوزراء، وهل سنرحّل هؤلاء إلى التصفية في سوريا؟». تقمص ليس في محله يتقمص باسيل شخصية الزعيم والقائد المسيحي، وهو تقمص في غير محله، ومثاله في ذلك رئيسا الجمهورية الراحلين بشير الجميل وكميل شمعون، يرافقه حلم القيادة منذ يفاعته. مصادر عونية صرحت قبل ايام بان «باسيل في حالة صعود تشبه صعود كميل شمعون وبشير الجميل، حلفاؤه يعملون له ألف حساب وكذلك خصومه، ولينتظروا المزيد». يدرك باسيل ان لا قضية ولا عصب مسيحيا تستولده الحالة الراهنة وتجعل المسيحيين يجمعون على شخصه كما حصل في عهد الجميل وشمعون، لذا يحاول تعويض العصبية المسيحية بخطاب تسويقي، محوره استعادة منافع وتوظيفات وحقوق يسميها العونيون «غنائم مسلوبة» بفعل الوصاية السورية، وقد آن الاون لاسترجاعها في ما يطلقون عليه تسمية «العهد القوي». المفارقة ان «الوصاية» او «الاحتلال السوري» مفردات غائبة عن الادبيات العونية الراهنة بالرغم من نضال شبانهم طيلة 15 سنة ضد الوجود السوري، فتلك المرحلة الممتدة من 1990 لغاية 2005 يعرّفها قادة التيار حاليا بـ«الحريرية السياسية» او «السنية السياسية» التي نمت على جثة المارونية السياسية. الجينات والانتماء تتدرج مواقف باسيل التي يصفها البعض بـ{العنصرية} صعودا من قضية النزوح السوري، من اعادتهم الى ديارهم عودة آمنة، الى طردهم من اعمالهم التي «ينافسون» بها اللبنانيين. اما ذروة الابداع، فتمثلت بما ادلى به على هامش مؤتمر الطاقة الاغترابية قبل ايام، اذ اعتبر ان «الجينات اللبنانية» هي سبب تفوق الانتماء اللبناني على اي انتماء آخر، وبسببها هو في مكان آخر يصعب اللحاق به او التشبه به. عاصفة الردود التي اثارتها نظرية «الجينات»، والتي مزجت بين السخرية والتهكم على كلام الوزير، استدعت ردا منه، فدافع عن اتهامه بالعنصرية من قبل البعض و«تفهمه» ذلك لأن «الانتماء اللبناني لدى هؤلاء ليس قويا كفاية ليشعروا بما يشعر به، ولأنهم يعتبرون أن هناك انتماء ثانيا قد يكون أهم بالنسبة لهم». لكن زوبعة الردود لم تتوقف ووصلت امس الى المطالبة بإقالة وزير الخارجية الذي يشوه علاقة لبنان ببعض الدول لـ«عنصريته وخطابه المتشدد»، بعدما نشر تغريدة اراد منها الدفاع عن موقفه من حماية اليد العاملة اللبنانية، فقال «من الطبيعي أن ندافع عن اليد العاملة اللبنانية بوجه أي يد عاملة أخرى، أكانت سورية أو فلسطينية أو فرنسية أو سعودية أو إيرانية أو أميركية، فاللبناني قبل الجميع».